News

أنا أعيش نكبتي الخاصة

كان جدي حمدي في الثامنة من عمره فقط عندما فرت عائلته من بئر السبع، وهي بلدة في جنوب فلسطين كانت معروفة ذات يوم بأرضها الخصبة وحياتها الزراعية. وكان والده عبد الرؤوف مزارعاً يملك ما يقرب من 1000 دونم من الأراضي ويزرع القمح ويبيع المحصول للتجار في غزة. عاشت العائلة حياة سعيدة ومريحة.

في أكتوبر 1948، بعد عدة أشهر من إعلان القوات الأوروبية الصهيونية قيام إسرائيل، هاجمت القوات الإسرائيلية بئر السبع، مما أجبر آلاف الفلسطينيين، بما في ذلك عائلة جدي، على الفرار تحت التهديد بالتعرض لمذبحة.

كثيرا ما أخبرني جدي: “لقد هربنا من بئر السبع عندما وصلت الميليشيات”. “اعتقد والدي أن ذلك سيكون مؤقتًا فقط. لقد تركنا منزلنا وأرضنا وحيواناتنا خلفنا، معتقدين أننا سنعود. لكن ذلك لم يحدث قط».

وفرت عائلة حمدي سيرا على الأقدام وعلى عربة يجرها حصان. ما اعتقدوا أنه سيكون بضعة أسابيع من النزوح تحول إلى منفى دائم. ومثلهم مثل 700 ألف فلسطيني آخرين، كانوا ناجين مما نسميه الآن بالنكبة.

وجدت عائلة حمدي ملجأً في غزة، حيث أقاموا في ملاجئ مؤقتة ومع عائلاتهم الممتدة. وساعدهم أقاربهم في شراء قطعة أرض صغيرة في حي التفاح في غزة، على بعد 70 كيلومترا فقط (40 ميلا) من منزلهم في بئر السبع، الذي أعاد الإسرائيليون تسميته إلى بئر السبع. كافحت عائلة حمدي من أجل إعادة بناء حياتها.

بعد خمسة وسبعين عامًا من تجربة جدي مع النزوح المؤلم والحزن والكفاح من أجل البقاء، وقعت أنا وعائلتي ضحية النكبة أيضًا.

في الساعة الرابعة صباحًا يوم 13 أكتوبر 2023، رن هاتف والدتي. كنا ننام جميعًا في غرفة واحدة بمنزلنا في حي الرمال بمدينة غزة، نحاول أن نجد الراحة من أصوات الطائرات بدون طيار والطائرات الحربية التي تحلق فوقنا. أيقظنا الهاتف جميعًا.

لقد كانت رسالة مسجلة مسبقًا من الجيش الإسرائيلي تحذرنا من أن منزلنا يقع في منطقة خطر، وأننا نتلقى أوامر بالتحرك جنوبًا. سيطر علينا الخوف ونحن نركض إلى الخارج، لنرى المنشورات الإسرائيلية متناثرة في كل مكان تحمل نفس التحذير. لم يكن أمامنا خيار سوى حزم بعض الملابس وبعض الفراش والفرار.

لم تكن هذه هي المرة الأولى التي نضطر فيها إلى مغادرة منزلنا. منذ أن كنت في الثانية عشرة من عمري، عايشت رعب الاعتداءات الإسرائيلية على غزة، والتي أجبرتنا مراراً وتكراراً على الفرار والعيش في خوف وعدم يقين.

منذ أن كنت في الثانية عشرة من عمري، تعلمت التعرف على الأصوات المميزة للقنابل وطائرات إف-16 ومروحيات أباتشي والطائرات بدون طيار. لقد عرفت عن كثب الرعب الذي يجلبونه.

كانت عمليات النزوح السابقة مؤقتة، وكنا نأمل أن تكون هذه أيضا مؤقتة – تماما كما كان جدي يعتقد أن عائلته ستعود في نهاية المطاف.

لكن لا عودة في الأفق الآن. لقد تعرض منزلنا لأضرار جسيمة بسبب دبابة إسرائيلية. احترق الطابق العلوي، وفقد جدار كامل في الطابق السفلي. تم تدمير جميع ممتلكاتنا.

حقيبة اليد التي تحتوي على بعض الملابس التي أخذتها يوم 13 أكتوبر هي كل ما تبقى من ممتلكاتي.

توجهنا إلى بلدة الزوايدة، وسط قطاع غزة، لنقيم عند أقاربنا. وعلى طول الطريق، رأينا آلاف الفلسطينيين الآخرين وهم يجرون أكياسًا من الملابس ويبحثون عن الأمان.

ومن ملجأنا المؤقت، رأيت ألم المنفى في زوايا كل غرفة المزدحمة. تقاسمنا الشقة مع 47 شخصًا آخر، وكان يغمرنا الخوف المروع من عدم وجود مكان آمن. أمضينا شهرين في تلك الشقة المزدحمة، القريبة من شارع صلاح الدين. وفي نهاية المطاف، أجبرتنا الانفجارات المستمرة على الانتقال إلى منزل آخر في المنطقة.

وفي 5 يناير/كانون الثاني، اشتدت حدة نيران القناصة وطلقات الرصاص. ثم جاء الانفجار المدوي للمدفعية والقنابل. جمعنا ما كان لدينا من القليل وهربنا إلى دير البلح.

اضطررنا للعيش في خيمة تتسع لثمانية أشخاص لمدة ثلاثة أشهر قبل أن ننتقل إلى غرفة صغيرة سيئة العزل على قطعة أرض يملكها أحد الأصدقاء. هذا هو المكان الذي نقضي فيه فصل الشتاء. يتسرب المطر عبر النوافذ المصنوعة من النايلون، والبرد لا يطاق، مما يجعلنا بلا نوم معظم الليالي.

لقد ناضلنا من أجل تأمين أبسط الاحتياجات الأساسية – الغذاء والماء. خلال اليومين الماضيين، اضطررنا للبقاء على قيد الحياة على المياه الملوثة ورغيف خبز واحد. لقد استنزف الجوع قوتنا وآمالنا.

أفهم الآن نكبة 1948 بطريقة لم أفهمها من قبل. إنها قصة أجدادي يكررونها في جيلنا، ولكن داخل حدود غزة. ولكي نكون صادقين، فإن الأمر يبدو أسوأ حتى من نكبة عام 1948. فالأسلحة المستخدمة اليوم أكثر تقدما بكثير، وتتسبب في دمار غير مسبوق ووفيات وإصابات جماعية ــ وهو أمر لم يكن لأجدادي أن يتخيلوه قط في عام 1948.

الألم ليس جسديًا فقط. كما أنها نفسية. إن مشاهدة ما لا يمكن تصوره – الخوف المستمر، وفقدان الأحباء، والنضال من أجل البقاء – قد أدى إلى خسائر فادحة. في الليالي الطوال، يطاردنا هدير الصواريخ الذي يصم الآذان وذكريات الأجساد الممزقة والمنازل المدمرة. أنظر إلى أفراد عائلتي وأرى كم تغيرت وجوههم؛ عيونهم المجوفة ودموعهم الصامتة تتحدث كثيرًا. عندما أسير في الشارع، أرى مجتمعات معروفة بكرمها وتضامنها وقد تحطمت بفعل الخسارة والدمار.

ومن الواضح أن هدف إسرائيل هو إخراج الفلسطينيين من فلسطين التاريخية بأي وسيلة. الخوف من الطرد من غزة كبير. ومع تحول المنازل إلى أنقاض ومحو أحياء بأكملها، يبدو أن منفانا قد يكون وشيكًا. لم أتخيل قط أن أغادر منزلي، ولكن بعد خسارة كل شيء، لم تعد غزة مكانًا للعيش فيه – بل مجرد مقبرة لليأس والخسارة.

ولا يوجد فلسطيني لم يتأثر بالتهجير، والخوف من فقدان الوطن إلى الأبد. إن النكبة هي حقًا قصة فلسطين التي لا تنتهي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلف ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

Source link

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button